Tuesday, December 20, 2016

أسباب الحروب بالسودان

جذور مشكلات السودان وأسباب الحروب (١)

بقلم / شهاب طه

لإيجاد العلاج والحلول لمشكلات سوداننا كوطن مأزوم وممزق جغرافياً وسياسياً ومجتمعياً ومحاصر دولياً يتحتم علينا أن نعرف ونشخص أهم أسباب وجذور المعضلات التي أقعدتنا وجعلتنا شعب عاجز عن إيجاد أي مخرج من آتون أزماته المتراكمة والمتفاقمة طردياً. وهنا يتوجب علينا مراجعة الماضي ومعرفة من نحن ولماذا الذي نحن فيه؟ وبعد دراسات متعمقة وتشخيص علمي دقيق أعتقد أن من أهم مسببات مشكلاتنا وأخطرها هو مؤثرات الإحتلال أو ما يسمى بالإستعمار الحديث الذي فرض سطوته علينا وهو الذي حدد من نحن وكيف نكون نحن وهو الذي رسم ملامح صراعاتنا وهويتنا المهزومة وكل إخفاقاتنا التي نعيشها اليوم وعلينا أن نعي ذلك جيداً.

سيطر الإستعمار على أرض السودان، المنقسم الآن لدولتي السودان ودولة جنوب السودان، قبل قرنين من الزمان وبدأ تركياً إسلامياً عثمانياً في العام 1820 ثم هزمته الثورة المهدية في العام 1885 وأقامت دولتها حتى العام 1899 حيث أجهضها الغزو البريطاني ليصبح الإستعمار بريطانياً مسيحياً منذ ذلك الحين واستمر إلى أن طرد في العام 1956 وترك لنا ما يسمى بالدولة السودانية المدنية الحديثة. وبغض النظر عن هويتها ومكوناتها فقد كانت وليد معوق للإستعمار البريطاني الذي جمع التباينات العرقية والقبائلية والجهوية والعقائدية والثقافية ورصها في الخارطة التي رسمها وسمّاها السودان. رحل الإنجليز لتؤول إدارة الدولة للكوادر الوطنية والتي لم تكن مؤهلة بالقدر المناسب ولم تنل الحظ الكافي من التعليم الأكاديمي والمعرفي إضافة لقلتهم. وبالرغم من أن تلك الكوادر السودانية كانت تكفيها وطنيتها اللّامحدودة بجانب مؤهلاتها البسيطة لحكم وإدرة وطن هو وطنها، ولكن للأسف لم يكن السودان الذي صنعه الإنجليز ورحل عنه هو سودانها ولا هو وطنها والذي لم يكن له وجود ما قبل الإستعمار بصورتة ما بعد الإستقلال. رحل الإنجليز وتركوا ورثتهم المثقلة بالمصاعب والتحديات وأهمها ضرورة وكيفية مزج تنافرات بالغة التعقيد لخلق أمة متوافقة في مناخات عصيبة وخاصة مشكلة جنوب السودان، وكل ذلك بجانب أعباء إدارة الدولة وعلاقاتها الخارجية، والحفاظ على وتطوير البنية التحتية والإنتاجية والمنظومة المؤسسية بكل أفرعها من قضائية وتشريعة ومالية وإدارية ومحاسبية وعلمية وبحثية وحكومات مركزية ومحافظية ومحلية. وكانت أهم المؤهلات المنقوصة هي علوم التخطيط والتنمية.

أما المنظومة السياسية الوطنية فقد آل شأنها للأسرتين الكبيرتين، آل المهدي وآل الميرغني، واللتان أستحقتا التكليف والتشريف ليس منّة من المستعمر البريطاني ولكن كحق مستحق منحه لهما الغالب الأعم من الشعب السوداني من منطلق تبجيل وإحترام وبل تقديس لذاتيهما في المقام الأول ولمنهجيتهما الدينية ذات الطابع الصوفي الذي جبل عليه أهل السودان. فقد تصدت الأسرتان الكبيرتان لرعاية الحراك السياسي الذي كان من أهم دوافعه الكفاح الوطني من أجل نيل الإستقلال أبان حكم الأنجليز ومن ثم إدارة مرحلة ما بعد الإستعمار. الطائفة المهدية هي طائفة دينية ويسمى منسوبيها بالأنصار، أي أنصار مفجر الثورة المهدية، الإمام محمد أحمد المهدي. أنشأ آل المهدي حزب الأمة في العام 1945 كضرورة للإسهام في الحياة السياسية على النمط الذي يفترض أن يكون ديموقراطياً. وكذلك الطائفة الميرغنية وهي طائفة دينية صوفية وليّها الفقيه علي الميرغني، والذي تمكنت أسرته من إحتواء أعرق الأحزاب السودانية وهو الحزب الإتحادي الديموقراطي الذي أصله إندماج ثلاثة أحزاب سياسية هي الأشقاء وحزب الشعب الديموقراطي والحزب الوطني الإتحادي الذي كان يرأسه الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري، أول رئيس وزراء لحكومة سودانية وطنية في أواخر أيام الإستعمار البريطاني في العام 1954 وهو الذي أعلن إستقلال السودان من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955، ورفع علم الوطن، في حديقة القصر الجمهوري، في الخرطوم، في 1 يناير 1956.

ولكن الإخفاق كان وظل حليف الأسرتين في تفعيل آلية الديموقراطية التي لم تكن متجانسة مع منهجيتهما السلطوية والتركيبة الطبقية لمكوناتهما الطائفية، تماماً كخلط الماء بالزيت. أسرة مالكة حاكمة لمريديها ثم طبقة تالية وهي الدرجة الأولي وتخص الأنساب والأعيان وزعماء ورؤوس القبائل الموالية والعشائر ووكلاء مراسم شعائرهما في مدن وأقاليم الوطن المترامي الأطراف. طبقة ثانية قوامها أُسرْ ذات أوزان مجتمعية وهي موالية وناشطة سياسياً وإقتصادياً ومجتمعياً ثم طبقة ثالثة كادحة مذعنة وتلك هي الغالبية العظمى من شعوبهم. فبقي الحال كما هو عليه وبقيت الحظوظ مقسمة كما يجب أن تكون.

تأبطات كل من الطائفتين حزبها كعصاة لتتوكأ عليها وتهش بها من تشاء ولها فيها مآرب أخرى. ولكن أصابتهما الشيخوخة المبكرة وتآكلت العصا وتعثر المسار، فعجزتا عن الإحتفاظ بأجيالهم المتجددة والنخب المتعلمة والمثقفة ناهيك عن إقناع أو إستقطاب أي دماء جديدة وهذا قد يكون ضرب من ضروب المستحيل لأن الإنضمام لهذين الحزبين كان ولا يزال رهين وقرين للهوية الطائفية التي تعلو على كل شيء، تماماً كالديانة اليهودية التي لا يمكن إعتناقها لمجرد الإعتقاد فيها لأنها ديانة عرقية، ومثال ذلك حزب الأمة الذي ليس من الممكن أن تكون عضواً فيه مالم تكن سليل أسرة هي أصلاً أنصارية، وكذلك الحزب الإتحادي الديموقراطي الذي تمكله وتراعاه أسرة الميرغني فلن يكن لك شأن في تلك المنظومة مها عظم مؤهلك وفكرك وعطاؤك ولن تكون لك الحظوة في التطور والقيادة ما لم تكن سليل أسرة تعتقد وتنتهج المذهب الختمي الميرغني منذ النشأة الأولى. ولذا بقيت الديموقراطية البريطانية الغربية بمفهومها الحضاري مجرد شعار زائف وترياق فاسد عاجز عن تحجيم سمّ الرجعية الطائفية المتنامية المتفاقمة رغم أنف زمان الغير والمتغيرات وضرورة التغيير.

كان ذلك كفيل بتنفير الغالب الأعم من النخبة السودانية المستنيرة أكاديمياً وثقاقياً وإبتعادها عن ساحة العمل السياسيي وتنصلها عن تحمل المسئولية الوطنية المناطة بها وذلك للشعور بالحرج ليس فقط من الإنتماء لمثل تلك المنظومات بفهم أنها رجعية فحسب بل لمجرد التواجد معها في نفس المسرح السياسي إضافة لليأس من منافستها بسبب تفشي الأمية الأبجدية والحضارية وكلاهما من أهم دعائم ومقومات البنية الطائفية. وبالرغم من محاولات إيجاد البديل حيث لجأت بعض شرائح النخبة لإستيراد مفاهيم ومنهجيات سياسية من الخارج بإعتبار أنها ستلبي حاجة المجتمع والخروج به من الظلمات لنور التطور المرغوب ومثال ذلك الشيوعية الماركسية، والقومية العربية بشقيها الناصري والبعثي، وميثاق الإخوان المسلمين المصري المنشأ، والإشتراكية المعدلة والمهجنة بالدين والمتوافقة مع المكونات الثقافية للمجتمع، وتلك كلها بجانب الفكر الجمهوري الإسلامي والذي هو سوداني الأصل. ولكنها جميعها لم يكن لها الحظوة في إستقطاب وبالأصح إنتشال القدر المعتبر من الشعب السوداني الغارق في نشوة الصوفية الدينية، ما عدا تنظيم الإخوان المسلمين الذي كان الترويج له في السودان قد بدأ بواسطة البعض من الطلاب السودانيين المبعوثين في مصر في بداية الأربعينيات وكانت قد جذبتهم أدبيات الإمام حسن البنا وجريدة الإخوان المسلمين التي كان لها الأثر السحري القوي في الأوساط الشبابية الطلابية في مصر آنذاك أما فيما يخص إمتدادها للسودان فقد كانت الإنطلاقة الرسمية بحسب رواية الأستاذ صادق عبد الله عبد الماجد، وكان وقتها أوفدته أسرته لمصر طالباً في مدرسة حلوان الثانوية، وهو يعتبر من مؤسسي التنظيم السوداني، وقد قال أنه تعرف على الإمام حسن البنا في العام 1943م في محاضرة له في مدينة حلوان، وأوصف كيف أنه تأثر بحديث الإمام البنا فوقف معه وطلب منه أن ينطلق ذلك المدْ الروحي لأهل السودان، فأستجاب حسن البنا وفي عام 1944م أوفد مجموعة من الطلاب السودانين الدارسين بمصر طافت ببعض مدن السودان تدعو وتبشر باسم الإخوان المسلمين.

ولكن بالرغم من النشاط المكثف وجريدة الأخوان المصرية التي كان توزع مجاناً للجمهور لم يجد التنظيم القبول المرغوب في المسارح الشعبية فبقي حبيس الأوساط الطلابية في جامعه الخرطوم حيث وجد الإستحسان والقبول ثم أمتد لإستقطاب التلاميذ منذ عمر مبكر في المدارس المتوسطة والثانوية. بقيت القيادات الإخوانية على تواصل مع التنظيم الأم في مصر وناشطة في نشر فكر الإخوان وتروّج على أنه البديل والتصحيح للمسار الإسلامي. وبمرور الزمن الطائفي الرجعي إستطاع تنظيم الإخوان المسلمين أن يحشد كوادره ويقتطع رصيده الأكبر من حساب الطائفتين الكبيريتين حيث وجد الكثير من أبناء الطبقة الكادحة الموالية للسيدين الحظوة في التدرج السريع وإعتلاء المناصب القيادة في تنظيم الإخوان المسلمين وهو الشيء الذي كان محرماً عليهم إن تبعوا مسار أهلهم البسطاء وأستكانوا في المعيّة الطائفية. وقد يتذكر الدارسون في جامعة الخرطوم في الفترة مابين 1979-1985 أن غالبية قيادات الإخوان الطلابية، تحت مسمى الإتجاه الإسلامي، وأعضاء إتحادات الطلاب كانت أصلاً من بيوتات أنصارية وختمية، وهؤلاء هم الذين تسلموا مهام دعم وتسيير السلطة ما بعد إنقلابهم العسكري في 30 يونيو 1989 والذي لم يكن لهم خيار غيره بعد أن تأكد لهم صعوبة الوصول للسلطة إن صبروا على مقارعة ومصارعة حزبي السيدين، الأمة والإتحادي الديموقراطي، في معترك الإنتخاب الديموقراطي لقلة شعبيتهم والتي قد تواتر إنحسارها بسبب تجربتهم في الحكم الإنفرادي الشمولي لما يزيد عن الربع قرن من الزمان. ولنا لقاء.

sfmtaha@msn.com

نشر في ٢٣ مارس ٢٠١٥
جذور مشكلات السودان وأسباب الحروب (٢)

بقلم/ شهاب طه

تناول المقال الأول إخفاق النخبة السودانية في إدارة سودان ما بعد الإستقلال والذي ما كان إلا وليد معوق للإستعمار البريطاني وكيف أن السيدين، المهدي والميرغني، أخفقا في النهوض بالعمل السياسي وفي تفعيل آليات الديموقراطية حتى في قواعدهما فكان ذلك السبب الرئيس والأهم في عجزهما عن إدارة وطن بحجم قارة. ولكن شاءت الأقدار أن تنتهج جماعة الإخوان المسلمين السودانية مسار الطائفية الصوفية فأصبحت فئة لا تقبل أو تتفاعل مع غيرها بالرغم من أن شعار ومبررات إنقلابها في 30 يونيو 1989 كان هو ثورة إنقاذ السودان والذي وضح جلياً أنه شعار زائف وفاقد الصلاحية قبل أن يطرح في سوق النخاسة السياسية حيث أن الجماعة لم تنجح في إنقاذ نفسها أولاً قبل أن تُنقذ الآخر بدليل أنها لم تفكر أو تسعى حتى في مجرد تكوين حزب سياسي إنفتاحي وطني قومي جامع لكل ألوان الطيف لمجرد إبداء حسن النوايا لأن ذلك، وعلى ما أعتقد، قد يكون مخالف للمنهجية العقائدية والفكرية والتنظيمية التي تحكم مساراتها فآثرت مواصلة الإنزواء في عزلتها السياسية والمجتمعية التي لا تقبل المساومة، بل تمادت في تعلية الأسوار بعد السيطرة على السلطة والإنفراد بها فلجأت للتمكين السياسي والإقتصادي بجانب التمكين العسكري بشقّيه النظامي والشعبي. وأصبح كل ذلك كفيل بتأهيلها لإستخدام سياسة الجذرة والعصا، الترغيب والترهيب، لإحكام سطوتها وإنهاك الكيانات السياسية الصغيرة المناوئة لها بل سعت لتفكيك حزبي السيدين المهدي والميرغني، الأمة والإتحادي، فكم من مهرجانات وسرادق أفراح نصبها حزبها الحاكم، حزب المؤتمر الوطني، إبتهاجهاً بإنسلاخ قيادات وجماعات بل أفواج من حزبي السيدين وإنضمامها له وإنزوائها تحت عباءته مستجيرة من رمضاء القهر والتجويع والحرمان ولنيل المكاسب كثمن لأتعاب مكياج وجراحات تجميلية لوجه النظام الذي لم يرحمه الزمن العصيب، وذلك دون وعيّ من حزب المؤتمر لمخاطر الإنقضاض على الآخر وأن القضية ليست كالمنافسات الرياضية حيث أن الفوز بالدوري المحلي يؤهلها للمنافسات الإقليمية والدولية، بل العكس هو الصحيح، حيث كان نتاج ذلك المردود السلبي على حكومة الإنقاذ في المحافل الخارجية الدولية وعجزها عن التصدي للضغوط فيما يخص حروبها الأهلية وفك سمكرة نوافذها الإقتصادية المغلقة وبذلك يتأكد أن تفتيت الجبهة السياسية هو إضعاف للجبهة الداخلية والذي لم ولن يكون في صالح الدولة ولا السلطة الحاكمة.

فكل هذه الكبوات السياسية هي مسئولية مشتركة ما بين النخب السياسية والجيش السوداني الذي لم يكن يحظي بما يميّيزه عن بقية جيوش أفريقيا والعالم الثالث التي إستمرأت حكايات الإنقلابات في فترة ما بعد الإستقلال من الإستعمار الأوروبي ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، وآخرها إنقلاب اللواء السيسي على الشرعية الدستورية في مصر. تلك الإنقلابات التي دائما ما يحاول العسكر وبطانتهم المدنية النفعية تسويق مبرارتها مُدّعيةً أن القوى السياسية المدنية عاجزة عن تدبير شأنها وأن الشعوب العربية غير مؤهلة للديموقراطية بعد. ولكن تبقى القضية في جوهرها هو التهافت على السلطة والرغبة في التسلط بموجب قانون الغابة والعرجاء، أي منطق القوة المسلحة مقابل المستضعفة العزلاء، وذلك يتأكد تماماً في الحالة السودانية حيث لم تنجح أي محاولة إنقلابية عسكرية ضد حكومة عسكرية على الإطلاق وطيلة حكم العسكر الذي إستمر 48 عاماً، أي قرابة النصف قرن من الزمان لثلاث فترات متقطعة مقابل 11 عاماً لحكومات مدنية ديمقراطية توزعت على ثلاث فترات متباعدة ولكن كان الفضل في إسترداد الشرعية والحياة الديموقراطية يعود للشعب العنيد بثوراته السلمية المجيدة ضد الدكتاتوريات العسكرية.

فقد كانت الديموقراطية الأولى إنتقال ديموقراطي طبيعي للسلطة من المستعمر البريطاني للسودانيين وكانت الحكومة برئاسة عبد الله خليل، حزب أمة، الذي إستمرت فترة حكمه لعامين فقط من يوليو 1956 وحتى17 نوفمبر 1958 حيث نفذ ضدها أول إنقلاب عسكري في سودان ما بعد الإستقلال وكان بقيادة الفريق إبراهيم عبود الذي حكم لست أعوام لتطيح به الثورة الشعبية في 21 أكتوبر 1964 والتي عرفت على أنها أول ثورة شعبية تحدث في العالم العربي والأفريقي. وكانت قد إنطلقت من جامعة الخرطوم، وغمرت شوارع العاصمة ضد نظام عبود، فأنحازت القوات المسلحة السودانية للثورة الشعبية، فجاءت الديموقراطية الحزبية الثانية فتمت الإنتخابات وفاز حزبي السيدين ونصب الزعيم إسماعيل الأزهري رئيس لمجلس السيادة عن تجمع الإتحادي الديمقراطي وآلت رئاسة الوزارة لحزب الأمة فتبادل رئاسة الحكومة سرالختم الخليفة ومحمد أحمد المحجوب والصادق المهدي من 1964 وحتى 25 مايو 1969 حيث قاد العقيد جعفر محمد نميري إنقلابه العسكري بمشاركة من الحزب الشيوعي السوداني والقوميين العرب، واستمر في الحكم 16 عاما لتنهى حكمه الإنتفاضة الشعبية في 6 أبريل 1985 وهي ثاني ثورة شعبية تحدث في السودان والعالم العربي وأفريقيا بعد ثورة أكتوبر لتطيح بحكم عسكري وأيضاً إنحاز فيها الجيش للشعب فأستلم المشير عبد الحمن سوار الذهب مقاليد السلطة الإنتقالية وأصر على تسليمها بعد عام واحد للساسة المدنيين، في سابقة فريدة من نوعها في العالم الثالث.

تمت الإنتخابات وكان من الطبيعي فوز حزبي السيدين ونُصب أحمد الميرغني رئيساً لمجلس السيادة والصادق المهدي رئيساَ لمجلس الوزراء، وتواصل إخفاقهما في أيجاد أي جديد حتى 30 يونيو 1989 حيث نفذ العميد عمر حسن أحمد البشير إنقلاب الإخوان. يجب التنويه لأن الإنقلابات العسكرية التي راج سوقها في العالم الثالث قد يكون خلفها تدبير أو بإيعاز مباشر أو غير مباشر من القوى الإمبريالية الغربية تحت المظلة الأمريكية لتجدد إحتلالها لمستعمراتها القديمة بواسطة الوكيل الإنقلابي للحفاظ على مصالحها الإستراتيجية والإقتصادية كما هو معروف وكما يعترف بذلك الكثير من موظفي الإستخبارات والسلك الدبلوماسي الأمريكان والأوروبيون في مذكراتهم.

ولكل ما سبق فقد كان من المستحيل أن تتجه الأحوال في سودان ما بعد الإستقلال عكس الإنحدار البطيء نحو الهاوية حيث توفر المناخ المثالي لهجرة الكوادر الوطنية المؤهلة أكاديمياً وفكرياً وتقنياً وحرفياً حتى مرت فترات كان من العسير أن تجد عامل بناء أو سباكة أو كهرباء يتقن عمله، ولم تدرك تلك الجموع المغتربة أنها وبحانب إخفاقات النخب السياسية والإنقلابية هي أيضاَ قد أسهمت الإسهام الأكبر في إنجاز الكارثة الكبري والأسوأ على وطنها منذ الإستقلال وحتى اليوم ألا وهي الإنفتاح على سوق العمل الخليحي في فترة السبعينيات والثمانينيات وعقد الصفقة الماحقة ما بين الشعب السوداني المنكوب وشعوب الخليج المحظوظة الرابحة والتي إستنزفت طفرتها الفجائية المتعطشة ثروات السودان البشرية الأكاديمية والحرفية مقابل عملات صعبة لإعمار غابات الأسمنت والإحياء السكنية الراقية وتحويل المجتمع لقوة إستهلاكية قارضة في بلد يعتبر من أغني الدول الأفريقية من حيث الثروات الطبيعية إن لم يكن أوّلها وأيضاً مقارنة بكثير من دول العالم. ولكن قد لا يقع اللوم على المغتربين من أجل لقمة العيش الكريم بل اللوم كله يجب أن يصب على إزدهار دول الخليج والذي صادف أحرج مراحل التنمية السودانية بكل خططتها الخمسية والعشرية والإنقاذية وغيرها. وقد قدر بعض الخبراء أن الكوادر المغيبة يقدر حجمها بنسبة 80% من إجمالي الخبرات السودانية في كافة المجالات.

ولكن جاءت حكومة الإنقاذ فكان أول إسهماتها أن تصب الزيت على نار حريق الوطن، فأمسكت بسيف الصالح العام لتقضى على الكثير مما تبقى بل سعت لتطوير منهجية الإقصاء من إغتراب خليجي يحتمل العودة بعد بلوغ سن المعاش أو إنها عقود الخدمة فغيّرتها لتكون هجرة أبدية للعالم الغربي الذي لا يتواني في إبتلاع المهاجرين له وإستيعاب ذريتهم وتكون المحصلة فقدان أجيال قد يكون من المستحيل إستردادها. ثم بقت وحدها في الساحة لتواجه معضلات لم تُقّدر حجم فداحتها وكان أخطرها سعير حرب دارفور وجبال النوبة التي أطلق شرارتها الأولى الدكتور خليل إبراهيم بالثورة المسلحة بحجة نصرة شعب دارفور المهمش ويجب أن لا تفوت على الشعب السوداني أن مؤسس حركة العدل والمساواة كان أحد أمراء طالبان السودان وكان شريك في إنقلاب 30 يونيو 1989 وفي سلطة الإنقاذ الحاكمة حتى العام 1998 ليخرج بعد الخصومة والإنشقاق ضمن فصيل الترابي. وهنا يتوجب رصد وإحصاء إسهامات الكوادر الإنقاذية من أبناء دافور ودورهم في تكريس معاناة وتهميش أهلهم قبل أن ترمي باللائمة على أهل الشمال أو الجلابة كما عرفت تسميتهم. ثم تلى ذلك نهوض العديد من الحركات المسلحة التي تَدّعي وصايتها على شعوب دارفور وجبال النوبة فأضفت على حرب الجنوب مشروعيتها وأسهمت إسهام مباشر في فصله. ولكن ليس من الأخلاق ولا الأمانة في شيء أن ينكر عاقل حقيقة معاناة وتهميش أهل دارفور وجبال النوبة ولكن بالمقابل يتحتم على ثوار دارفور وجبال النوبة الإحتكام للمنطق والمنهجية العلمية والأمانة في تشخيص قضية الهامش ومن هم المهمشين؟ أليس كل شعوب السودان مهمشة الآن بسبب الحروب؟ فليس من العدل في شيء أن تختطف تلك الحركات قضية الهامش وتُلبسها ثوب العنصرية ومن ثم المساومة بها لأغراض خاصة بل يجب أن تكون القضية قضية قومية شاملة.

فخير أمثلة التهميش في سوداننا هو حال مواطني ومزارعي مشروعي الجزيرة والمناقل والذين وقعت علي عاتقهم، ولعقود من الزمان، كفالة و إعالة الدولة السودانية وتوفير الجزء الأكبر من ميزانيتها في أيام الإنجليز وما بعد الإستقلال، وكل ذلك من عائد الأقطان والتي كان بنك السودان ولوقت قريب يدفع منها مستحقات وإمتيازات المعاش للموظفين الإنجليز الذين عملوا في السودان ويرسلها لهم في بلادهم، وكذلك مجانية التعليم وخاصة في جامعة الخرطوم والتي كانت تحتضن النوابغ من كل عرقيات السودان دون فرز أو تمييز وتتكفل دولة المزارعين والكادحين بكل شيء حتى الإسكان والإعاشة علاوة على توزيع المنحة الشهرية كمصاريف نثرية للطلاب المحتاجين، وأيضاً بعثات الدراسات العليا. فأين أهل الجزيرة الآن؟ سماسرة في الأسواق ورعاة في السعودية والخليج وأولادهم يبيعون مياه الصحة ومناديل الورق في تقاطعات شوارع العاصمة الكبرى. ولنا لقاء ومواصلة.

sfmtaha@msn.com
نشر في ٣٠ مارس ٢٠١٥

No comments:

Post a Comment

من هو الافضل للسودان

ويسألونك ..؟ محمد امين ابوالعواتك في اوقات الظلم وغياب السلم والامان والفقدان الموجع.. إن من يصنع الفرق هو كل من يوقد الامل وينشر شعاعه ويصن...

Search This Blog